ويقال لهم: نريد ولو واحداً في عهد النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا إله إلاَّ الله)، ولم يصلِّ ولم يزكِ ولم يحج ولم يجاهد ولم يعمل أي عمل من أعمال الإسلام، وظل في عرف النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والمؤمنين أنه من المسلمين والمؤمنين؟ لا يستطيع أحد أن يأتي بدليل على ذلك أبداً، فلذلك يقول المصنف رحمه الله: "فطائفة تقول: لا نكفر من أهل القبلة أحداً، فتنفي التكفير نفياً عاماً، مع العلم بأن في أهل القبلة المنافقين..."، فأوضح دليل في الرد عليهم: أن في أهل القبلة من يشهد أن لا إله إلاَّ الله وأن محمداً رسول الله، ويدعي الإيمان، ويصلي مع المؤمنين في المساجد، ويزكي معهم زكوا أو تصدقوا، ويجاهد معهم إذا جاهدوا العدو، ومع ذلك فهو منافق لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر، كافر في الباطن، وهو في الدرك الأسفل من النار مع الكفار.
والأدلة كثيرة جداً في القرآن والسنة على أن المنافق كافر مع أنه يأتي بالشعائر أو الشرائع الظاهرة، ومع ذلك فهو كافر لنفاقه، فكيف يقال بأنه ليس في أهل القبلة من يُكفَّر؟ فهذا يكفر بناءً على ما في قلبه من المرض الذي أوصله إلى الخروج من الملة.
ومن الأدلة على أن المنافقين كفار مع أنهم يقولون: أشهد أن لا إله إلاَّ الله وأن محمداً رسول الله؛ قوله تعالى: ((إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ))[المنافقون:1]، فقد نطقوا بالشهادة، ومع ذلك قال تعالى: ((وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ))[التوبة:107]، فمن كذب في دعوى الشهادة فليس بمؤمن، وقد كان عبد الله بن أبي يقوم ويخطب في القوم مبيناً فضل الله تعالى ونبيه عليهم، ويشهد أن محمداً رسول الله، لكن لم ينفعه شيء من ذلك.
ومن أبلغ الأدلة على كفر المنافقين سورة التوبة -وهي من آخر ما نزل بعد غزوة تبوك - وقد سميت الفاضحة أو المخزية أو المشقشقة؛ لأنها فضحتهم وأخزتهم وشقشقت عما في قلوبهم، وقد بين الله سبحانه وتعالى فيها كفرهم وردتهم بسبب النفاق، مع أنهم كانوا يظهرون الإسلام، بل إنه أثبت أنه كان لديهم دين وإسلام، قال الله تعالى: ((وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ))[التوبة:84]، وآية أخرى: ((وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلا يُنفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ))[التوبة:54] فقد كانوا يصلون وينفقون، ثم قال بعد ذلك: ((فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ))[التوبة:55]، وقال تعالى: ((وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ))[التوبة:65-66].
فهذا دليل على أنهم كفروا مع أنه أثبت أنه كان لهم إيمان من قبل.
وقال تعالى: ((إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا))[النساء:145]، وقال تعالى: ((وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ))[البقرة:8] وقال تعالى: ((يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا))[التوبة:74]، وكذلك في سورة البقرة والنساء وفي كثير من السور إثبات أن المنافقين كفار.
إذاً: المنافقون هم في ظاهر الأحكام من أهل القبلة: يشهدون أن لا إله إلاَّ الله وأن محمداً رسول الله، باللسان، ويصلون، وينفقون مع من ينفق من المؤمنين، ويخرجون للجهاد، وقد خرج بعضهم كالذين استهزءوا بالقراء في غزوة تبوك -وقد يتخلف بعضهم- ومع ذلك فهم كفار وليسوا بمؤمنين، وهذا من أقوى الردود على من يزعم أنه ليس في أهل القبلة من كفار.
وقد يقول بعض الناس: أولئك هم المنافقون في صدر الإسلام. وكأن النفاق ما وجد إلاَّ في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فنقول: لا، بل إنه كلما ازداد بُعد الأمة -في جملتها- عن الإيمان الحق؛ اشرأب النفاق وأصبح أظهر وأشهر وأكثر انتشاراً، وكثير من الناس هذا حاله، حتى ذكر أن الحسن البصري رحمه الله سمع رجلاً يدعو ويقول: [[w=8000750>اللهم أهلك المنافقين، فقال: لا تقل هذا -يا ابن أخي- فإنه لو فعل لخلت الطرقات]] لأن أكثر الناس فيهم شعبة من النفاق على الأقل، إن لم يكن نفاقاً خالصاً، نسأل الله العفو والعافية.
إذاً: في أهل القبلة من هو من المنافقين الذين فيهم من هو أكفر من اليهود والنصارى، وفيهم من قد يُظهر بعض ذلك الكفر إذا سنحت لهم الفرصة وأمكنهم ذلك، وهم يتظاهرون بالشهادتين! فإذا جاءت المحن ظهروا، فإن الله سبحانه وتعالى قد جعل المحن والأحداث تمحيصاً لما في القلوب، وتمييزاً يبن المؤمن الحق والمنافق الزائغ، قال تعالى: ((وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ))[آل عمران:141]، وقال جل ثناؤه: ((لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ))[الأنفال:37]، فمثلاً: بعد معركة بدر دخل كثير من المنافقين في الإسلام، وخرست ألسنتهم وأذعنوا، لكن بعد هزيمة أحد ؛ رفع المنافقون رءوسهم، وأيضاً يوم الأحزاب أثناء الشدة عندما رأوا أن المؤمنين مقهورين، ولا حيلة لهم، وظنوا أنهم قد انتهوا، وما بقي إلاَّ أيام أو أسابيع وينتهي أمر هذا الدين؛ حينها ظهر النفاق، وأعلن المنافقون نفاقهم، وقالوا: إن محمداً صلى الله عليه وسلم يعدنا بملك كسرى وأحدنا لا يستطيع أن يذهب لكي يقضي حاجته!
وهذا هو حال المنافقين على مر التاريخ الإسلامي عموماً، إلا في عهد عمر رضي الله عنه، فقد كان النفاق خافتاً خافياً ذليلاً، فلما قبضه الله ظهرت الفتنة في زمن عثمان رضي الله عنه، وإذا بالنفاق يظهر، وإذا بـعبد الله بن سبأ يشعل الفتنة في الكوفة، وفي مصر، وغيرها، إلى أن قتل عثمان رضي الله عنه.. وهكذا إذا ضعف الإيمان، وإذا ضعف أهل الحق؛ ظهر المنافقون وكشروا عن أنيابهم، فهم كالأفاعي تتستر متحينة الفرصة المناسبة، والسم ناقعٌ في أنيابها.
وكلما ظهر عدوٌ للأمة أعانوه، فعندما جاء الصليبيون ظهر المنافقون ظهوراً واضحاً في بعض دويلات الرافضة في مصر، وفي بلاد الشام، وكان من ملوكهم الصالح إسماعيل صاحب دمشق، وغيره، ممن فتحوا الحصون لأعداء الأمة، وأعطوهم السلاح، وأعانوهم على المسلمين -نسأل الله العفو والعافية- فظهر نفاقهم، ولمَّا جاء التتار بقيادة هولاكو الذي دخل بغداد، قام ابن العلقمي ومن يسمى نصير الدين الطوسي وأظهرا النفاق وراسلا هولاكو، وظهر شيوخ الطرق يجاهرون بضلالهم، حتى إن بعضهم كان يقود فرس هولاكو ؛ لأن المؤمنين قد قضي عليهم، ولم يعد لهم قوة فلم تعد هناك حاجة في أن يتظاهر بالإيمان، فأظهر النفاق، وأصبح في ركب أعداء الله وأعداء الإسلام.
فالنفاق موجود في هذه الأمة منذ أن هاجر محمد صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، والنفاق: هو عدم الإيمان والإخلاص والإقرار لله سبحانه وتعالى بالوحدانية، ولمحمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة عن صدق واعتقاد بالقلب.
يقول رحمه الله: [وفيهم من قد يظهر بعض ذلك حيث يمكنهم]، فإذا كانت الفرصة مواتية، والمصلحة موجودة؛ ظهر نفاقهم وكفرهم، وإلا فلا.